بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:--
أيها المستقبلون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:--
أما بعد:--
قال بعض أهل العلم: ليس الشأن أن تحب الله، ولكن الشأن كل الشأن أن يحبك الله.
والسؤال الآن:--
كيف نفوز بمحبة الله التي هي أعظم مطلب للمؤمنين؟
ولكن قبل ذِكْر الأمور الموصلة إلى ذلك الشرف العظيم والنعمة الكبرى، أنقل لكم كلاماً يدل على عِظَمِ هذا الشأن من منزلة المحبة للعلامة الإمام ابن القيم في الجزء الثالث من كتابه "مدارج السالكين".
فصل:--
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المحبة:--
وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شَخَصَ العاملون، وإلى عَلَمِها شَّمَرَ السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوْحِ نسيمها تَرَّوَحَ العابدون.
فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون.
وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو من جملة الأموات.
والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات.
والشفاء الذي من عَدِمَهُ حلت بقلبه جميع الأسقام.
واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي رُوْح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها. وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها.
وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها.
وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب.
وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب.
تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب.
وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب.
فيا لها من نعمة على المحبين سابغة.
تالله لقد سبق القومُ السعاةَ وهم على ظهور الفُرُشِ نائمون.
وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون.
"من لي بمثل سيرك المدلل، تمشي رويدا وتجي في الأول".
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح.
وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح.
وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح.
تالله لقد حَمِدوا عند الوصول سُراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يَحْمَدُ القوم السُرى عند الصباح.
1- فحَّيَ هلاً إن كنت ذا همة فقد، حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا.
2- وقل لمنادي حبهم ورضاهمُ، إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا.
3- ولا تنظرِ الأطلالَ من دونهم فإن، نظرت إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا.
4- ولا تنتظرْ بالسير رفقةَ قاعدٍ، ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا.
5- وخُذْ منهم زاداً إليهم وسِرْ على، طريق الهدى والفقر تصبح واصلا.
6- وأَحْيِ بذكراهم سُراكَ إذا وَنَتْ ركابك فالذكرى تعيدك عاملالا.
7- وإما تخافَّنَ الكلالَ فقل لها، أمامك وِرْدُ الوصل فابغِ المناهلا.
8- وخُذْ قَبَساً من نورهم ثم سر به، فنورهم يهديك ليس المشاعلا. 9- وحَّيَ على جنات عدن بقربهم، منازلك الأولى بها كنت نازلا.
10- ولكن سَباكَ الكاشحون لأجل ذا، وقفت على الأطلال تبكي المنازلا.
11- فدعها رسوماً دارساتٍ فما بها، مَقيلٌ فجاوزها فليست منازلا. 12- رسومٌ عَفَتْ يفنى بها الخلق كم بها، قتيلٌ وكم فيها لذا الخلق قاتلا.
13- وخُذْ يمنةً عنها على المنهج الذي، عليه سَرى وَفْدُ المحبة آهِلا.
14- وقل ساعدي يا نفسُ بالصبر ساعةً، فعند اللِقا ذا الكدُ يصبح زائلا.
15- فما هي إلا ساعةٌ ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا.
إن المؤمن إذا استمر يطلب بأقواله وأفعاله محبة الله ورضاه: فإن الله عز وجل سيكرمه بنيل هذا المطلب السامي ويحقق له هذا الأمل المنشود.
ويدل على ذلك حديث ثوبان الذي رواه أحمد بتحقيق الأرنؤوط برقم: "22454" وقال إسناده حسن.
ورواه أيضاً الطبراني في الأوسط كما ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث "6040" من كتاب الأدب من صحيح البخاري.
هذا الحديث والذي سأسوقه الآن -إن شاء الله- له معي قصة، فقد ذكرته يوماً لأحد إخواني على الهاتف منذ عشر سنين أو يزيد، فبكى بكاءً شديداً طويلاً، حتى إني ما زِلْتُ أذكرُ المكان الذي كنتُ أكلمه وأنا جالس فيه من بيتي، وعلى أي كرسيٍ كنتُ أجلس بالضبط.
لعلكم الآن تقولون وما هو ذاك الحديث؟، إليكم الحديث:--
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد لَيَلْتَمِسُ مرضاةَ الله، ولا يزال بذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه"، فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تهبط له إلى الأرض".
ولمذا لا يبكي من سمع أو قرأ هذا الحديث وقد اشتمل على صفاتٍ عظيمة من صفات الله العليا، السمع، البصر، الكرم، الرحمة، العطاء، الجود، الإحسان، الإنعام، العزة، القدرة، سَعَةُ الملك، إحاطته بجميع خلقه مع كثرتهم من غير أن يشغله أحد عن أحد، أو يشغله شيءٌ عن شيءٍ له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر وهو على كل شيءٍ قدير.
بكينا لما يشير إليه هذا الحديث من قصورنا وتقصيرنا في طلب محبته ورضاه، في الوقت الذي نصبر فيه صبراً عظيماً من أجل الظفر بمطلوب قد يكون فيه عذابنا وشقاؤنا، ونحن نحسب أن في نَيْلهِ راحتنا وسعادتنا، فإلى الله نشكو ضعفنا في تقويم اعوجاج أنفسنا، ونستعين بالله على إرادة وقول وفعل ما يرضيه سبحانه عنا.
وقد ثبت في الصحيحين، البخاري برقم: "6040"، ومسلم برقم: "2637" واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدا، دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، قال فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
وقد ذكر مسلم في آخر الحديث عن سهيل بن أبي صالح أحد رواة الحديث عن أبيه أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبدالعزيز وهو على الموسم. -أي وهو الأمير على الناس في موسم الحج- فقام الناس ينظرون إليه. فقلت لأبي: يا أبت! إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز، قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس. فقال: بأبيك! أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فتعجب أبو صالح من ابنه سهيل حيث استدل بحب الناس لعمر بن عبد العزيز ورضاهم عنه: بحب الله له ورضاه عنه، ولما كان هذا المعنى في حديث أبي هريرة الذي سمعه أبو صالح ولم يسمعه ابنه سهيل من أبي هريرة: فقد تعجب من فهم ابنه، فقال له: كأنك سمعت الحديث من أبي هريرة، ونقول نحن: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأخيراً: أذكر لكم باختصار عشرة أسباب ذكر ابن القيم في الكتاب الذي أشرت إليه: أن من قام بها: أحبه الله.
1- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
2- التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد العناية كل العناية بالفرائض.
3- ذِكْرُ الله في جميع الأحوال بالقلب واللسان والعمل والحال، فنصيب العبد من محبة ربه على قدر نصيبه من هذا الذِكْر.
4- إيثار ما يحبه الله على ما تحبه النفس، خصوصاً: عند غلبة الهوى، والاستمرار في الصعود إلى مَحَاّبِ الله وإن صَعُبَ المرتقى.
5- دوام تأمل القلب في معاني أسماء الله وصفاته ومقتضياتها، فمن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله: أحبه لا محالة.
6- دوام النظر في بره سبحانه وإحسانه وآلائه ونعمائه الباطنة والظاهرة وشكره والثناء بها عليه.
7- انكسار القلب بكليته بين يدي الله سبحانه، وهو من أعجب الأسباب.
8- قيام الليل خصوصاً: في الثلث الأخير الذي ينزل الله تعالى فيه، لمناجاته وتلاوة كتابه والوقوف بالقلب متأدباً بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار عند السَحَر.
9- مجالسة المحبين لله المخلصين الصادقين، وانتقاء الفوائد من كلامهم كما يُنْتَقى أطايب الثمر، مع الحرص على الاستماع والإنصات، إلا إذا دعت المصلحة للكلام.
10- اجتناب كل سبب يحول بين العبد وبين محبة الله تعالى ورضاه.
ويجمع ذلك كله أمران:--
1- استعداد الروح لهذا الشأن.
2- انفتاح عين البصيرة.
وبالله التوفيق.
كتبه: سعيد شعلان.